هو مخفر حبيش، «رهبة» الاسم تكفي. مكان «التعذيب» الأشهر، الذي غيّرت الدولة اسمه، رسمياً، يبقى موغلاً بحكاياته في ذاكرة أجيال من اللبنانيين. عفاف، المومس الأسطورة، وقفت هنا قبل نحو نصف قرن، ووزير داخلية ضُبط على طاولة القمار، أما المخدرات فحكاية لم تنته... هذا يوسف حبيش، بعد نحو 100 عام، يعود على دراجة هوائية للقبض على «عصابات الأشرار»
عندما عمل يوسف حبيش في الصحافة، مع خاله، لم يكن يعلم أن المخفر الأشهر في لبنان، الذي حمل اسمه لاحقاً، سيكون أكثر المخافر التي يرد ذكرها على الإطلاق في الصحافة... وذلك على مدى قرن من الزمن.
هنا بيروت، عام 1919، ها هو حبيش، رجل الأمن برتبة مفوّض، يُطارد مجموعة من «الأشرار» في محلّة الصنائع - بيروت. زميله خليل صعب إلى جانبه، يسقط حبيش أرضاً، يُصاب بطلق ناري من جانب «الخارجين على القانون». مطاردة امتدت من محلّة ساقية الجنزير إلى الصنائع، تخللها تبادل إطلاق نار، على الطريقة «البوليسية» التقليدية، انتهت بمقتل حبيش وإطلاق اسمه على ما كان يُعرف بـ«مخفر رأس بيروت».
هنا مخفر حبيش، آخر شارع «بلّس» في محلّة الحمرا، البساتين المثمرة كثيرة والبيوت قليلة. لم يكن الباطون قد اجتاح بيروت مطلع القرن الماضي. ينتصب المبنى عند زاوية حيويّة، يقبض على عصب العاصمة في حقبة الانتداب الفرنسي، وبمحاذاته تمر سكّة الـ«ترومواي». غداً ستصبح المنطقة هناك، برمّتها، تُعرف بـ«مخفر حبيش». الأسماء القويّة دوماً تصبغ ما حولها. سيطير، لاحقاً، اسم حبيش إلى ما وراء المحيطات، إذ تذكره المنظمات الحقوقية الدولية، كأحد أشهر «أماكن التعذيب» في لبنان. سيُصبح الاسم «فزّاعة» وإشارة إلى كل ما هو سيّء. على مدى أجيال، وإلى اليوم، عندما يُريد أحدهم أن يخيف أحد معارفه، تجده يتصل به قائلاً: «معك الضابط فلان من مخفر حبيش... ممكن تشرّفنا». لا مكان للمخاطرة، أو عدم الاكتراث، بعد سماع اسم هذا المخفر. كثيرة هي التندرات و«المقالب» التي رُكّبت باسم المخفر. تاريخ هذا المكان دوّنته صحائف قوى الأمن الداخلي الأرشيفية، إضافة إلى شهادات ضبّاط عملوا هناك، ولكن تُرى هل وصل إلينا كل شي؟ أو بمعنى آخر، هل يذكر الأرشيف كل ما حصل هنا، والذي إلى اليوم، وإن بنسب أقل، ما زال يحصل؟
ذات شتاء، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان المارّة أمام المخفر، وبعض الجيران، يسمعون صراخ نزيل إحدى زنزانات حبيش. كان يتألم ويطلب النجدة، على وقع الصفعات المتتالية، ولا يكف يُردد: «خلص خلص... بأمرك سيدنا، بأمرك». الموقوف، بشبهة السرقة، حسين ع.، استطاع بعد أيام أن يغافل الضابط، أثناء التعذيب، ويهرع إلى النافذة المفتوحة ويقفز منها إلى الخارج. قفز من الطبقة الثانية، على سطح سيارة، ثم دخل إلى مبنى آخر في الشارع نفسه. عاد رجال الأمن وأوقفوه، واستأنفوا الضرب والتعذيب، من صفع وركل و«فروج» (تقييد اليدين والرجلين مع رفع الجسم بواسطة عصا تمتد بين كرسيين). الشاب المذكور ليس إلا حالة من بين المئات، بل قل الآلاف، التي شهدت عليها أقبية المخفر. لو كان لجدران تلك الأقبية أن تتكلم، لصرخت ألماً، أول الأمر، ثم لأفصحت عن الكثير من الاعترافات التي انتُزعت قبل أن تُرسل إلى القضاء. (عام 2007 صدر حكم قضائي، يكاد يكون يتيماً، بحق شرطيين من مخفر حبيش بتهمة تعذيب موقوف). اسم هذا المخفر سيجده الباحث في أرشيف الأحكام القضائية، في مختلف العدليات، ودائماً ثمة فقرات نصيّة يقول فيها المتهم: «لقد عذّبوني في حبيش».
يُظلم «حبيش» عندما يُختصر بلفظة «مخفر». هو كان كذلك، قديماً،
لكنه لاحقاً، وتحديداً في حقبة ستينيات القرن الماضي، أصبح مجمعاً من 7 طبقات، يضم إلى جانب «فصيلة الدرك» (أي المخفر) كل من المكاتب الآتية: مكافحة المخدرات وحماية الآداب ومكافحة القمار. كلها مكاتب مستقلة في عملها لكن يجمعها مبنى واحد وصيت موحّد. يذكر قائد الشرطة القضائية سابقاً، العميد المتقاعد أنور يحيى، أنه في تلك الحقبة كانت الفرقة النشطة في هذا المجال تُسمّى: «فرقة الآداب والأخلاق - قيادة اللواء رفاعي». قضايا المخدرات والآداب (البغاء) والقمار كانت بعهدة النقيب عثمان عثمان، تحت عنوان «قسم المكافحة». في تلك الحقبة، عندما اشتهر «سوق السياحة» في لبنان، وكثر الزوّار العرب، حصلت الكثير من القضايا التي علقت في الذاكرة الشعبية. كثيرون من المشاهير مرّوا على «مخفر حبيش» بتهم مختلفة. ذات مرّة، في حقبة الستينيات، خرجت دورية من المخفر لتدهم شقة في الأشرفية تُدار فيها عمليات المراهنة والقمار. لكن احذروا ماذا؟ وجد رجال الأمن وزيرهم، أي وزير الداخلية، على طاولة القمار! طوي الملف... انتهى البيان.
«البترونة» عفاف
من لم يسمع بـ«عفاف»؟ عفاف «غير العفيفة» (كما يقولون) زارت حبيش في نهاية الخمسينيات. عفاف أشهر قوّادة في تلك الحقبة، إذ ذاع صيتها في بيروت، فهي كانت توفّر «الخدمات الجنسية» لشخصيات نافذة ومسؤولة في الدولة، عبر فتيات كانت تَستغل ظروف تشرّدهن وأخريات من الخارج. وزراء ونوّاب وقضاة وضبّاط وموظفون حكوميون، وما شئت من مناصب ورتب، كلهم وصلت أسماؤهم إلى «حبيش» في ملف الدعارة التاريخي. كان لـ«البترونة الشهيرة» (كما يقول العميد) نفوذ هائل في مفاصل الدولة، وكان لديها رجال أمن من حبيش، من مكتب حماية الآداب تحديداً، يخبرونها عن موعد عمليات الدهم مسبقاً، فتصل الدورية إلى الشقة فلا تجد شيئاً. كل ذلك حفظه أرشيف الأمن في لبنان، فضلاً عن الصحف الصادرة وقتذاك، وكانت قضية عفاف تكبر ومعها يكبر صيت «حبيش». بعد افتضاح الأمر، وسقوط الأقنعة نسبياً عن أسماء (بعض) النافذين، قال الراحل كمال جنبلاط واصفاً حكومة ذلك العهد: «يبدو أن الحكومة كلها عفاف».
لم تكن الفضيحة لتظهر عن عفاف ودولتها، لولا فتاة بيروتية،
في منطقة رأس بيروت، دخلت إلى عالم عفاف ثم استطاعت أن تفر منه وتحكي كل شيء. هذه الفتاة دوّنت شهادتها في حبيش، المخفر الذي كانت ترتاده المومسات دورياً، من أجل إثبات «نظافة» الفحوص الطبية لهن. كل ذلك يجرى بحسب «قانون البغاء». إدارة المومسات كان يتم من جانب مركز الشرطة المركزي الكائن في ساحة البرج (ساحة الشهداء). يقول أحد الضباط متندّراً، إنه كان ككلّ زملائه في العمل، عندما يحققون مع أي امرأة في مختلف مناطق لبنان، يسألونها بداية: «هل مررتِ على حبيش سابقاً؟». الجواب بنعم، كان يعني أن لها ملفاً في الدعارة. هكذا، أصبح حبيش مع مرور الأيام أيقونة للمخدرات والدعارة والقمار... والتعذيب.
جاءت الحرب الأهلية، وانهارت هيبة الدولة، ولكن يمكن القول إن «حبيش» ظل محافظاً على بقيّة هيبة. يقول العميد يحيى إنه «ما من لبناني اليوم، عمره فوق الأربعين، إلا ويعني له اسم مخفر حبيش شيئاً في ذاكرته». تلك كانت الحقبة الذهبية. يتذكّر العميد كيف استمرت «فرقة 16» بمساندة مكاتب حبيش حتى في حقبة السبعينيات والثمانينيات، في مختلف عمليات الدهم ومطاردة «كبار تجّار المخدرات». في شارع «بلّس» حيث المخفر، تقع الجامعة الأميركية في بيروت، ويمكن القول ثمّة منافسة على الشهرة بين حبيش والجامعة. كثير من الطلبة لديهم ذكريات مع رجال الأمن هناك، طالبات يذكرن أيام «التلطيش» أو «الغزل الأميري». بعض الشبّان يتحدثون عن «سلبطة» وعن عقوبة «الفلقة» بالخيزران.
زمن جديد
هو المبنى الذي كان ثكنة عسكرية في العهد العثماني، ثم مركزاً للشرطة اللبنانية في زمن الانتداب الفرنسي، ولاحقاً فصيلة درك ومركزاً للمباحث الجنائية. لكن، ولأن الدولة تعلم أكثر من سواها، فقد علمت أن اسم هذا المخفر أصبح «عاراً» عليها. سمعته في الحضيض محلياً وعالمياً. لهذا، قررت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، مطلع العام الجاري، إخراج اسم «حبيش» من التداول في البرقيات الرسمية. الآن صار اسمه «فصيلة رأس بيروت». عاد كما كان اسمه قبل مطاردة «المفوّض حبيش». من غريب الصدف، أن قوى الأمن قررت حديثاً استخدام الدراجات الهوائية، في دوريات «الكورنيش» وشوارع العاصمة، انطلاقاً من حبيش تحديداً، الذي كان رجاله يستخدمون الدراجات الهوائية أيضاً في الدوريات قبل نحو 100 عام. يقول المعنيون اليوم إن المخفر أصبح مكاناً لتعمل فيه نخبة الذين تخرجوا من دورات «الشرطة المجتمعية» (المدعومة أميركياً). يريدون التأكيد أن «زمن التعذيب قد ولّى ولا بد من تحسين الصورة» (ثمة شهادات حديثة تقول العكس). اليوم يروّج لحبيش سابقاً، وفصيلة رأس بيروت حالياً، على أنه مكان «الشرطة النموذجية». قرن من الزمان «الحبيشي» لن يكون سهلاً على اللبنانيين أن ينسوه، حتى وإن تغيّر الاسم رسمياً، أو استبدلت اللوحة الرخامية على المدخل لاحقاً، سيبقى هو «حبيش»... أقلّه حتى أجيال عدّة مقبلة.